السبت، 27 أبريل 2013

إن الدين عند الله الإسلام

                                                          إن الدين عند الله الإسلام                         

 د. ناصر بن محمد الأحمد
إن الإسلام هو الدين الحق، الذي يكلف الله به الخلق، ولا يقبل منهم سواه، إذ ما عداه من الدين باطل وضلال، كما قال تعالى: (إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلام) وقال تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين)، وهذا من حقائق الدين الواضحة الجلية التي يؤمن بها كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بل إن هذه الحقيقة اكتسبت أنصاراً ومؤيدين من رجالات العلم والمعرفة والتعقل من أصحاب الديانات المخالفة للإسلام، ممن أطلقوا عقولهم من عقال التقليد والتعصب، فجذبتهم إليها عندما رأوا أن معارفهم وعلومهم التي أفنوا شطراً كبيراً من حياتهم للوصول إليها، توافق ما يقرره هذا الدين من حقائق وقواعد، لذلك أقبل الكثير منهم على الدخول تحت لواء هذا الدين، ورغم هذه المكاسب والاختراقات التي يحققها الإسلام على صعيد النخبة العقلية والعلمية، فإن المسلمين يواجههم اليوم تحدٍ كبير، ليس من قِبَل أعداء الإسلام عن طريق إثارة الشكوك والشبهات، وإنما يكمن التحدي أيضاً في الإقرار بأن الإسلام هو دين الحق، ثم محاولة تفريغه بعد ذلك من مضمونه الحقيقي في أذهان العامة الذين لا يستطيعون في كثير من الأحيان التمييز بين القشر واللباب، فيتحول الإسلام في وجدانهم إلى مظهر أجوف لا ثمرة له عند البحث عن المضمون.
إن خطورة هذا التحدي لا تستمد من قوة الطرح ولا من صدقيته، وإنما تأتي الخطورة من كونه يُطرح باسم الفهم الصحيح للإسلام في ظل عصر التقنيات والاتصالات، ويقدمه مسلمون يظهرون في زي وسمت إسلامي.
نحن اليوم في هذه الفترة العصيبة من أوقات المسلمين أمام مرحلة جديدة، مرحلة ما يمكن أن تسمى بمرحلة تسويق الإسلام الجديد، ففي ظل الضعف الشديد الذي تعانيه أمة المسلمين على مختلف الأصعدة، وفي ظل سطوة الكافرين وظلمهم وطغيانهم بعدما حازوا أسباب القوة، وتفوقوا فيها على المسلمين واحتكروها، دَبّ الضعف والخَوَر في نفوس طائفة من المسلمين من الوجهاء، ومن بعض من يتعاطون شيئاً من العلوم الشرعية، فلم يروا مخرجاً من ذلك إلا عن طريق التقارب، مع ما أفرزته الحضارة الغربية المادية التي لا تتعامل إلا مع المحسوسات، والقبول بما جاءت به وعدم معارضتها. وفي ظل ذلك فقد بدأ العالم الإسلامي بعد الصحوة القوية التي شهدها مع مطلع القرن الخامس عشر المتزامن مع مطلع السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم بدأ الآن يتراجع إلى قريب من الحالة التي كان عليها مع قرب نهاية القرن الثامن عشر عندما دهمته قوى الاستعمار بما لديها من تقدم مادي وعسكري، فرجع إلى نصوص الشريعة يلوي أعناقها ويحرفها عبر دروب كثيرة من التأويلات الفجة التي لا تستقيم من أجل إيجاد أرضية مشتركة بين ما دلت عليه الشريعة وبين ما أتت به الحضارة الغازية، فبدأت تغزو أسماعنا الآن كلمات مثل: الإسلام المدني، والإسلام الديمقراطي، والإسلام الليبرالي، ثم الحديث عن قيم الإسلام التنويري، والانفتاح على الآخر في المختلف الثقافي والديني، والتعاون في سبيل المشترك الإنساني، وعدم نفي الآخر أو تهميشه، والتواصل بين المؤمنين في العالم، اليهود والنصارى والمسلمين في سبيل خير الإنسانية. والكثير الكثير من أمثال هذه الجمل والتعبيرات التي تتداخل فيها الألفاظ والمعاني لإنتاج خلطة متقنة فيها الكثير من الأمور والمسائل والقضايا التي تخالف عقائد الإسلام وأحكامه، إضافة إلى القليل من الطلاء الذي يبدو وكأنه ينتمي إلى عناصر الدين الصحيح، حتى يبتلع المسلمون الخلطة المعدَّة، كما يحتال الصياد بحبة من القمح يوقع بها الطائر في شراكه، فلا يخرج منها إلا إلى الذبح.
إن المعركة اليوم شديدة وقائمة على أشدها، وهي بكل أسف وأسى لا يديرها العدو الكافر المعلن بكفره وعداوته فحسب، وإنما يديرها مسلمون من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويحتجون بما نحتج به من القرآن والسنة لكن على غير الوجه السليم والاستدلال المستقيم، وقد بين لنا هذه الحقيقة الساطعة حذيفةُ بن اليمان رضي الله عنه كما في صحيح البخاري حيث يقول: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم! قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم! وفيه دَخَن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم! دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا".
فالإسلام الجديد الذي يُروَّج له اليوم في الدوائر الإعلامية والرسمية يتكلم به ناس من جلدتنا، ويتحدثون عنه بلغتنا، وهو ليس الإسلام الذي تعبَّدَنا الله به ورضيه لنا، فليس هو إسلام السعي لنشر دعوة الله بين العالمين، لأن ذلك وفق الفهم العصري للإسلام عدوان وهمجية تأباها الإنسانية المتمدنة، وإنما هو إسلام التعاون والتآخي بين المسلمين واليهود والنصارى على أساس أن المؤمنين إخوة، وليس هو إسلام الدفاع عن الحقوق والبلاد والعباد، لأن ذلك إرهاب يهدد السلم العالمي، وإنما هو إسلام المحبة والتصالح مع الأعداء من أجل أمن المجتمعات، والإقرار بحق الأعداء في العدوان على ديار المسلمين من أجل الحفاظ على أمنهم ومصالحهم، وحق احتلال الأراضي واقتطاع أجزاء منها تضمن لهم ذلك، وليس هو إسلام الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين، وإنما هو إسلام بذل المحبة للجميع، للمسلم الصالح وللكافر المعاند، لأن ذلك من قيم التحضر والتمدن التي غابت عن المسلمين قروناً طويلة بسبب التأزم النفسي من الصراع مع غير المسلمين، وليس هو الإسلام الذي يمنع الربا في المعاملات المالية والاقتصادية، لأن ربا اليوم ليس كربا الأمس ربا الجاهلية القائم على الجشع، وإنما ربا اليوم إنما يعمل على رفاهية المجتمعات وتحقيق التنمية، وأن الاقتصاد لا يقوم إلا به، وأن الدول لا تنهض إلا عليه، وليس هو إسلام التمسك والاعتصام بالكتاب والسنة، وتقديم كلام الله وكلام رسوله على قول كل أحد، لأن هذا تنطّع وتشدّد وتزمّت يرفضه دين السماحة واليسر، فما خُيِّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ويتركون بقية الحديث: "ما لم يكن حراماً". وليس هو إسلام التزام المرأة بما حدّ الله لها، لأن هذا يعبر عن النظرة الدونية للمرأة، والهيمنة الذكورية التي تغلب على ثقافة المسلمين التي نشأت بسبب الموروثات البيئية، إضافة إلى عدم الثقة في المرأة مما يحرم المجتمع من قدراتها العظيمة، وإنما هو الإسلام الذي لا يمنع من تبرج المرأة وإظهارها لزينتها واختلاطها بالرجال، ومشاركتها لهم في كل مجالات العمل، ما دام الجميع محافظاً على الآداب العامة مع الاحترام المتبادل بين الطرفين، وليس هو إسلام الثبات الذي يظل الحرام فيه حراماً والحلال حلالاً والواجب واجباً، لأن هذا تحجر وجمود ولا يراعي خصوصيات الزمان والمكان والمستجدات العصرية، وإنما هو إسلام التطور والمرونة ومجاراة العصر، حتى لو أدى ذلك للخروج على أحكامه المعلومة، ما دام أن ذلك الخروج يحقق المصلحة، فالدين ما جاء إلا لتحقيق المصالح. وهكذا والقائمة طويلة.
ولكن نقول: إن الإسلام ليس نظرية علمية أو اكتشافاً قابلاً للتغيير والتبديل مع تطور النظريات العلمية أو تجدد الاكتشافات، كما أنه ليس موضة من الموضات التي تتغير وتتبدل بتغير أذواق الناس وأوضاعهم، بل إن هذا الدين قد أكمله الله، وأتمّ به النعمة علينا، ورضيه لنا ديناً (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا)، فلا ينبغي للمسلمين أن يضيِّعوا نعمة الله التي حباهم بها، بل واجبهم أن يقدروا هذه النعمة حق قدرها، ويعلموا أن ما لم يكن ديناً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو على عهد خلفائه الراشدين فليس اليوم ديناً، فما لم يعرفه أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا السابقون الأولون، ولا أصحاب الشجرة فليس من الدين.
إن قوة الهجمة التي يراد منها تغيير الدين ولو باسم تجديد الدين أو باسم الدخول إلى عصر التقنيات الحديثة، أو باسم الانفتاح على الآخر، أو غير ذلك من المسوغات ينبغي أن تقابَل برد مكافئ في منتهى الوضوح بعيداً عن التعميم والتداخل في الألفاظ والمناورات الكلامية، وتمييع القضايا، فالأمر جد لا هزل فيه، وقد قال الله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون)، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالوضوح التام في القضايا المصيرية التي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً فقال له: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون). وقد حذرنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من هذا الصنف الذي يعمل على إفساد الدين في جمل قاطعة وواضحة، فقال: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم". رواه مسلم. وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء دجالون كذابون، وحذر من الاستجابة لهم، لأن في ذلك الفتنة والضلال، فقال: "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يُضلونكم ولا يفتنونكم". رواه مسلم.
إن مهمة العلماء الراسخين في رد تلك الهجمة مهمة جليلة وعظيمة، وهذا هو دورهم، ولا يصلح أن تُترك قيادة السفينة في بحر قد تلاطمت أمواجه إلا للربان الخبير، فهل من مستجيب؟.
لقد كثر من يظهر على شاشات القنوات الفضائية، وعبر صفحات المجلات اليومية، وكل يوم يظهر لنا شخص جديد، ممن هم في الحقيقة نكرات، لم يُعرفوا بعلم أو دعوة أو تأليف ولو لكتيب، فتفاجأ به يُخرج لنا فتاوى ينقض بها فتاوى كبار العلماء من السلف والخلف.
فوجئ المسلمون  بالعديد من الفتاوى التي لا فائدة من ورائها سوى تغريب المجتمعات وإفسادها، وما هي إلا استجابة لضغوطات المؤسسات أو الهيئات أو التوجهات المناوئة للإسلام:
صدمتنا الفتوى الموقَّع عليها من عدد ممن يُنظَر إليهم على أنهم من العلماء التي تقول: إنه يجوز للمسلم الأمريكي أو البريطاني ونحوه العامل في جيش بلاده أن يقاتل معهم إذا حدثت مواجهة عسكرية بين بلده وبين بلد إسلامي ولو أدى ذلك لقتل إخوانه من المسلمين؛ وذلك إثباتاً لولائه لبلده، فقدموا الولاء للوطن (ولو كان دار كفر) على الولاء لله ورسوله والمؤمنين.
وفوجئنا بمن يفتي لدولة نصرانية عَلمانية بأنه يحق لها أن تسن قانوناً يمنع المسلمات من الالتزام بلباسهن الشرعي، وأن على المسلمات الخضوع للقوانين التي تتدخل في حقوقهن الشرعية بالمنع، وأن من لا يروق لها ذلك فعليها أن تهاجر من بلدها الذي هو موطنها وموطن آبائها وأجدادها، وليس لها وطن غيره.
استقرت الفتوى عقوداً طويلة على أن فوائد البنوك رِباً جليّ، وصدر بذلك فتاوى من عدد من المجامع الفقهية، حتى ظهر من يتبجح ويقول بحل الفوائد وأنها ليست من الربا ويقول عن البنوك الربوية: إنها أكثر التزاماً بالشرع من البنوك الإسلامية؛ مجرِّئاً بذلك المسلمين على أكل الحرام، ومثبتاً للبنوك الربوية على نهجها الخاطئ ووأداً لأي بادرة لتوبة البنوك ورجوعها عن الربا.
وجدنا من يفتي بجواز أن تُرضِع المرأة الموظفة زميلها في العمل حتى يكون محرماً لها للنجاة من عوار مشكلات الاختلاط، ولو طولب هذا المفتي أن يبين لنا قول شراح الحديث في شرح الحديث الذي يستدل به لكفَّه ذلك عن كثير من قوله في هذه المسألة.
ثم وجدنا من يقول بجواز فك السحر بالسحر.
ووجدنا بعد ذلك من يتطوع بالإفتاء بحِلِّ الاختلاط ويجهد نفسه في البحث والتنقيب عما يمكن أن يستدل به لرأيه حتى جاء من ذلك بما يعجب منه المرء غاية العجب.
ومنذ وقت قريب وجدنا من يقول بحِلِّ الأغاني حتى ما كان منها مصحوباً بالآلات، ويخطِّئ جمهور أهل العلم القائلين بعكس ذلك.
فهذه عيِّنة من الفتاوى التي لو عُمِلَ بها لجرفت المجتمع بعيداً عن دائرة السداد وأدخلته في دوائر متعددة من الانحراف.
وأصبح مجتمعاً تزيغ فيه العقائد؛ حيث الذهاب للسحرة والاستعانة بهم، مجتمعاً تضيع فيه معاني الولاء والبراء؛ حيث يُقدَّم الولاء للتراب على الولاء للعقيدة، ويُتعيَّش من المال الحرام؛ إذ يشيع التعامل بالربا، وتفسد الأخلاق؛ إذ يشيع الاختلاط، وتضيع معاني الرجولة؛ حيث الاستماع للأغاني المصحوبة بآلات الطرب، وغير ذلك مما يترتب على تلك الفتاوى؛ فلو تصورنا المجتمع وقد وصل إلى تلك الحالة جراء تلك الفتاوى لَبَعُدَ علينا تصور أن ذلك المجتمع ينتمي إلى المنظومة الإسلامية. 
ورحم الله ربيعة شيخ مالك حينما قال: «لَبَعضُ من يفتي هنا أحق بالسجن من السراق»، ورحم الله الحنفية عندما أفتوا بالحَجْر على المفتي الماجن، وقالوا: هو أحق بالحجر من الذي يمارس الطب وليس بطبيب، فإذا كان من يتطبب وهو ليس بطبيب يفسد الأبدان، فإن من يفتي وهو ليس بمفتٍ حقيقة فإنه يفسد الأديان.
فالمسؤولية عظيمة وكبيرة على العلماء وطلاب العلم، ولا يسعهم السكوت والمجاملة لفلان وعلان، بل يجب عليهم الإيضاح والبيان بكل أنواع البيان، بالكلمة المقروئة والمسموعة والمرئية، ولا مانع من التكرار بل هو الواجب، كلما نعق ناعق بمثل هذه القضايا أن يرد عليه مباشرة وأن يبين حكم الله عز وجل للناس في مثل هذه المسائل.
وأهل الإعلام يمكرون، يتبنون قضية من القضايا ويعملون على إثارتها خاصة ما يتعلق منها بالشريعة، أو قال فيها علماء الشريعة بكلام يصادم أهواء أهل الإعلام, فيستغل الإعلاميون وبعض المنافقين غفلة بعض المحسوبين على الخير, ليتصدر الصفحات, أو يَخرج في الشاشات فيقول بما يوافق أهواء المنافقين, أو يستنطقه بعضهم بكلام عامٍّ عائمٍ يستغلونه أبشع استغلال, ويعزفون به على وتر التشكيك والفتنة, حتى إذا دهم الناس ذلك المستغفَل واستنكروا قوله وفعله قال: فهمتوني غلط، أو أنا ما أقصد هذا. فياسبحان الله العظيم! كيف لم تقصد هذا وأنت قلت فيه بما يوافق أهواء المنافقين؟ ومن الذي ألجألك لأن تقول بهذا القول وقد كنت في غنية عن البوح به؟ ولماذا اتهمت أفهام الناس ولم تتهم نفسك؟ أما كان يسعك السكوت حين لم تكن ملمَّا بمكر القوم وخداعهم؟ وحين انبريت للحديث لماذا لم تقل ما تدين الله به بصراحة حتى لا يختلط ما تعتقده بما ندَّ عن لسانك من هفوات؟.
وفي خضم هذه القفزات التغفيلية هل سنرى من يتحفنا بجواز ضرب الوالدين وحرمة قول "أفٍّ", أخذاً بقولبعض الظاهرية؟ أو بقول من يبيح للخاطب النظر إلى المخطوبة عريانة؟ أو غير ذلك من المسائل الشاذة التي قد لا تخلو منها بعض كتب السادة الفقهاء في جميع المذاهب!. لا أدري ما سر تهافت بعضالمحسوبين على الخير ومسارعتهم للأخذ بالشذوذات وكأنهم يبشرون الناس بها ويتحمسون لها وكأنها المنقذ من الهلكات, والعاصم من القواصم, والباعث من ركام التخلف والتبعية, كالقول بسماع الغناء, أو الاختلاط, أو قيادة المرأة, أو إرضاع الكبير, أو حل السحر بالسحر, أوعدم وجوب صلاة الجماعة، أو نحو ذلك, مع أن تلك الأقوال لا تعدو أن تكون أقوالا باعثة على الازدراء, أو آراء موصلة إلى فتنة, أو مذاهب تخالف عمل المسلمين الذي تلقوه عن الثقات الأثبات.
أحد مدعي هذه الفتاوى, صرح أن الذي دفعه للبحث في تلك المسألة جلسة ضمته مع بعض سفهاء الإعلام, فتمخض عن تلك الجلسة بحث خالف فيه عامة علماء الأمة, فكانت بهيمة الأنعام أزكى نتاجا منه، وهذا إنما أنتج فتنةً وفساداً, وقولاً خداجاً, ولم يكفه ذلك بل صار يصم من خالفه الرأي بالجهل واتباع الهوى عياذا بالله من الضلال وسوء الحال.


نحن اليوم في عالم طغت ظلمات الفتن فيه على معالم السنن، وغطى دخان الحرائق على الحقائق، فتعسرت الرؤية، وتداخل الحق بالباطل، وتشابهت طرائق السير على السائرين، واختلّت الموازين لدى كثير من الناس، بفعل سحرة العصر وكهانة الكُبّار، من رموز الإسلام العصراني التنويريين، ومن شياطين الإعلام ومَرَدَةِ الإخراج والتصوير، حيث صار للدين صورة كاريكاتورية مرعبة في مخيلة كثير من المستلَبين، وجموع التائهين من المسلمين المتغربين. وزاد في ذلك بشاعةً سلوكُ بعض مشايخ الفضائيات، وخطابُهم اللين دائماً وفي كل شيء وفي كل مسألة، رغبة التنفيس عن المعاناة والألم اللذين يعتصران قلب المؤمن في هذا الزمان جرّاء الظلم والظلمات التي تجتاح هذا العالم الجديد، فكان تديُّن بعضهم إلى الانحراف أقرب منه إلى الاعتدال في السلوك والاعتقاد، فساعدوا أبالسة الإعلام على صناعة الصورة المخيفة للإسلام والمسلمين، وبدأت تؤثر بالفعل على كثير من شرائح المجتمع، ولقد وجدنا شرائح من هؤلاء أيضاً ممن ضاعت منهم هويتهم أو ماتت.
لا شك أن من واجبات الدعوة إلى الله أن ينهض أهل الفضل والعلم بإنجاز شتى ضروب البيان، مما يحتاج إليه إنسان هذا الزمان الذي وقع ضحية التغريب والتخريب في السلوك والاعتقاد، ووقع أسيراً بالشبكة التي نصبها كَهَنَةُ الإعلام، وسَحَرَةُ الفضائيات (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيم). وما أحسب هذا ببعيد عن معنى "فتنةِ القَطْر" المذكورة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي راه البخاري في صحيحه، فيما رواه أُسَامَةُ بن زيد رضي الله عنه، أَنّ النّبِي صلى الله عليه وسلم أَشْرَفَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ. ثُمّ قَالَ: "هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنّي لأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ، كَمَوَاقِعِ الْقَطْر!".
إن هذا التوجه وهو ما يسمى بالإسلام التنويري والذي بدأ ينتشر في مجتمعات المسلمين، بل وفي مجتمع كمجتمعنا الذي ظل مدة طويلة من الزمن متماسك البنيان، ومحط أنظار العالم الإسلامي في العلم والتعليم والفتوى، بدأ هذا التيار ولكل أسف يقدم خدمة مجانية للتيار العلماني والليبرالي علم أو لم يعلم.
والشاهد هو أنه ما أن يُظهِر أحد هؤلاء الأشخاص كلمة أو فتوى أو مقال يوافق هوى التيار الليبرالي إلا وتلقفته الصحف بالمقابلات وتلقفته القنوات بالحوارات. أين أنت من هذا الظهور الإعلامي قبل شذوذاتك الأخيرة؟ بل أين أنت من الساحة الدعوية بدرس أو محاضرة أو شرح كتاب تنفع به الناس لو كنت من أهل العلم والفتوى؟.
هناك من شياطين الإنس والجن في كل زمان ومكان ومجتمع من يحاول أن يحرف توجه الناس من التدين إلى مسار مخالف أو منحرف، مع كونه يبدو في مظهره أنه المسار الصحيح، وأغلب انحرافات الأمم عن التدين إنما وقعت في بداياتها الأولى بشيء يسير من المخالفات التي لبست عليهم الشياطين فيها ليصبغوها بصبغة التدين، ثمَّ ما لبثت أن صارت طرقاً مضاهية للدين، ولكل طريقة أشياع، ولكل شيعة مطاع!.
ظهر في الفترة الأخيرة من العقد الماضي دعاة استطاعوا أن ينتقلوا بالأفكار الدعوية والتربوية إلى مدارات جديدة ومختلفة، ومنها إعادة عرض الأفكار الدعوية بشكل جديد، معتمدين على تقنيات حديثة وأساليب مستحدثة، لكنهم في الوقت نفسه مَيّعوا الدين، وأباحوا كثيراً من المسائل التي توارث الناس حرمتها، ونشروا ثقافة التسامح مع الكفار فضلا عن المبتدعة، وهو تسامح يتجاوز الثوابت الشرعية في تأصيل الرؤية تجاههم وإبداء المواقف إزاء أعمالهم والتعامل معهم! يسيرون في مسعى توفيقي بين الإسلام والواقع الذي تعيشه الشريحة المخاطبة.
إن هذا النوع من الدعوة يشبه في ذلك اتجاه بعض الكنائس في أمريكا والتي يتبعها الأغنياء في الأساس، لأنه يمكنهم في ظلها الجمع ببساطة بين الإيمان والثروة، وهذا ما يفعله الدعاة الجدد، مما جعل الأغنياء يشعرون بالرضا عن ثرواتهم. إن هدفهم الرئيس هو تصحيح القيم الأخلاقية لدى الأفراد فيما يتعلق بسلوكياتهم اليومية، وليس لدى هؤلاء من مشروع سوى رفع المستوى الأخلاقي لدى الشباب المنفتحين على الحداثة والتغريب، من خلال خطاب ديني يحمل قيم تحقيق الذات على النمط الليبرالي الجديد: الطموح، والثروة، والنجاح، والمثابرة في العمل، والفاعلية، والاهتمام بالذات، وصناعة الحياة، والتنمية، ونحوها.
إن البداية تكون بفتاوى تيسر على الناس وترخص لهم في بعض المسائل، وشيئاً فشيئاً يتولد عند هؤلاء الأتباع فقه مبني على تتبع الأقوال والاجتهادات الموافقة للهوى، وإذا كانت إرادة الفقيه من التيسير تقريب الناس من الدين وتحبيبه إليهم فإن النتيجة تكون باباً يخرج منه الناس من الدين وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!. وهذه الفتاوى تستند في غالبها إلى دليل شرعي أو قاعدة شرعية أو قول سابق، وصادرة عن أشخاص منتسبين للفقه، لكنها في الحقيقة فتاوى تأخذ بالأقوال الشاذة والأدلة الضعيفة أو المرجوحة، وتَفترض في بيئة المستفتي أنها محافظة سليمة من الفتن! وتشكل عند الجمهور المتساهل منهجاً مبيحاً للمحرمات التي هي دون الكبائر المعدودة على أصابع اليدين! ويقابل هذه الفتاوى المتساهلة إلحاح الدعاة الجدد على الرجاء ورحمة الله وغفران الذنوب مهما كانت، وهي مساحة لا شك فيها ولا إنكار لها، إن الإلحاح عليها كأنها المسار الوحيد والخيار الفذّ أوجد خللا لدى المتعرضين لهذا الخطاب، ووجههم إلى مزيد من الجرأة على الحرام مع التأكد من مغفرة الله لهم، وكذلك من تركيز بعض الدعاة الجدد على مسألة أعمال القلوب وأهميتها والتقليل من شأن أعمال الجوارح والسلوكيات والأخلاق.
ومن المآخذ أيضاً على هؤلاء الدعاة الجدد هو محاولة تطبيق الأمور الإدارية والدورات على القضايا الشرعية. فنحن لا نحرّم ولا نمنع من الدورات الإدارية وغيرها من الدورات النافعة والتي تخلو من المحاذير الشرعية، لكن لا يلزم من هذه الدورات أنها تتطابق مع القضايا والأحكام الشرعية في كل شيء، لأن معظمها مأخوذة من تجارب الغرب وغيرهم، وهم قد يغيروها أو ينقضوها بغيرها بعد زمن. فالمبالغة في هذه القضايا مع ضعف في العلم الشرعي من بعض الدعاة الجدد هو الذي يوقع في المحذور.

ثم هذا التضخيم في قضية الحوار مع الآخر، نحن لا ننكر الحوار، لكن لابد للحوار أن يصل إلى نتيجة، لكن هؤلاء يريدون الحوار أن يكون غاية، الحوار من أجل الحوار، بحيث ينتهي إلى أن الزنديق له رأيه، والمسلم له رأيه، الرافضي له رأيه، والسني له رأيه.
لم يكن لدى العلماء المسلمين سابقاً في التعامل مع الأديان إلا الدعوة أو الجهاد بحسب الشروط الموضوعية والأحوال المتغيرة في التعامل مع أهل الأديان المختلفة التي واجهوها، ولم يكن هناك ثمة رأي يرى الحوار مع الأديان لتحقيق مصالح مشتركة مع الإهمال الكامل للدعوة وإقامة الحجة وبيان الحق وإبطال الشرك.
والأصل الشرعي في الحوار مع أهل الأديان, الدعوة إلى الله وبيان الحق ورد الباطل بالأدلة الصحيحة، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين)، وقال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين). وهذا الأصل الشرعي مأخوذٌ من بيان الله تعالى لدعوة الرسل الكرام لأقوامهم, وقد كان أقوامهم على أديان مختلفة ومتباينة، يقول تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت) ومن خلال تتبع الآيات والأحاديث المبينة لحوار الأنبياء والرسل مع أقوامهم, نجد أنها دعوة وبيان للحق وكشف للباطل وبيان لضرره في الدنيا والآخرة، ولم نجد شيئاً يدل على محاولة القرب من الأديان أو العمل معهم في القضايا المشتركة والبعد عن نقاط الخلاف, لا سيما العقائد كما هو حال أكثر مؤتمرات الحوار اليوم، بل نجد محاولة من المشركين للتقارب معهم، ولكنه تُرفض من الأنبياء الكرام كما حدث في عرض كفار قريش التقارب من الإسلام حيث قالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد, وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فنـزلت سورة الكافرون. فليس في المنهج الرباني تحاور مع الأديان بمعنى التقارب فضلاً عن الوحدة, بل هو دعوة ومجادلة وبيان للحق، لأن الحوار من أجل الحوار يؤدي إلى تمييع مسائل الولاء والبراء كما هو حاصل الآن.
قال الشيخ الإمام العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: "وكنا قبل هذا الوقت نقول: لا حاجة لقراءة الجهاد لأنه لا يوجد جهاد، ولا لقراءة أحكام أهل الذمة لأنهم غير موجودين عندنا. أما الآن فلا بد لطلبة العلم من أن يقرؤوا ويحققوا أحكام الجهاد وأحكام أهل الذمة وسائر الكفار لأنه في هذا الوقت انفتحت جبهات للجهاد ولله الحمد في سبيل الله، وأما الكفار فقد ابتلينا بهم وكثروا بيننا لا كثَّرهم الله فالواجب أن نعرف كيف نعامل هؤلاء الكفار". أهـ[1].
وبمناسبة الحديث عن الحوار مع أهل الأديان فإن من أكبر دعاة التقريب بين الأديان روجيه جارودي، أشيع نبأ إسلامه عام 1402هـ، يقول جارودي: "إنني عندما أعلنت إسلامي لم أكن أعتقد بأني أتخلى عن مسيحيتي ولا عن ماركسيتي ولا أهتم بأن يبدو هذا متناقضاً أومبتدعاً". ويقول: "هذا النضال هو نضال كل أصحاب العقيدة، أوالمؤمنين بعقيدة، مهما يكن نوع إيمانهم ولا يهمني ما يقوله الإنسان عن عقيدته: أنا مسلم أو: أنا مسيحي أو: أنا يهودي أو: أنا هندوسي". وبعدما انتشرت عنه مثل هذه العبارات قيل إنه ارتد عن الإسلام! فقال حينها سماحة الإمام العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى: "لا يحكم عليه بأنه مرتد عن دين الإسلام كما توهمه بعضهم، وإنما هو كافر أصلي لم يدخل في الإسلام"[2].
إن من أهم أسباب ظهور التدين الجديد هي تلك الحرب الإعلامية والدعائية التي مورست ضد التدين الأصيل في الصحوة، والذي يحتكم إلى الكتاب والسنة وفهم الصحابة والقرون المفضلة الأولى في الإيمان والاتباع، وهو المسمى بالتوجه السلفي! وهو ما شكل حاجزاً نفسياً بين الناس وبين هذا الشكل من أشكال التدين المعروضة على الساحة! إضافة إلى ذلك السياسات التي تتبناها بعض الدول لتضيق الخناق بها على المتدينين عموماً، وتحرمهم من ممارسة حقوقهم الخاصة حتى في ظل الأنظمة الديموقراطية زوراً! تدفع بالبعض إلى البحث عن رخص الفتاوى في مقابلة البطش والتعذيب الذي قد تتعرض له.
إن الجماهير ميّالة بطبعها إلى تدين غير باهض التكاليف، وما توجيه موسى عليه الصلاة والسلام للرسول صلى الله عليه وسلم في قصة المعراج والإسراء ليطالب ربه بالتخفيف في شأن الصلاة، نظراً لما قد عالج من بني إسرائيل، إلا دليل على ذلك. وإذا أضفنا إلى هذه الطبيعة الخوف على المصالح والمتع الدنيوية والميول إلى الترف والشهوات فإن الأمر يكون آكد وتبقى هذه الجماهير تبحث عمن يسهل عليها التكاليف والتبعات.
إن بنو "ليبرال" كما يسميهم البعض، لم يستطيعوا أن يجاهروا بمحاربة الدين صراحة حتى لا تنكشف مخططاتهم، ولكنهم حوّروا مسمى الدين بالخصوصية، فوجدوا أن مهاجمتهم لخصوصية المجتمع بقصد مهاجمة الدين هو أخف وطأة رغم أن هدفهم واحد. ولاريب أنه لا يغيب عن ذهن فطين كُنه مقاصد هؤلاء، فهم يحاولون شرعنة بعض المحظورات من خلال المقارنة المجحفة، فالاختلاط المباشر بين الجنسين الذين لا يقره الدين وتأباه كل أعراف وعادات وتقاليد المجتمع، يحاولون إضفاء البراءة على ذلك من خلال المقارنة بالاختلاط في المسجد الحرام، رغم أن هذا الاختلاط المحفوف بغاية العبادة والتقرب إلى الله يخلو من الأهواء والمطامع الشهوانية في هذه البقعة المُطهرة التي لا تُخالج النفوس فيها نوازع الشيطان ومغريات الاختلاء، وليس كالاختلاط الذي يحاولون شرعنته بأماكن قد تخلو فيها نوازع مراقبة النفس لربها. والحجاب تتم محاربتة من قبل هؤلاء وأنه يتم فرضه على المرأة من قبل ولي أمرها وليس بتوجيه رباني.
لم يبق شئ يتعلق بالدين إلا وتطرق إليه اليبراليون وكأنهم عندما يحاربون الدين بقناع الخصوصية يرفعون الحصانة بذلك عن المحظورات التي يرتكبونها. والأشد غرابة في هؤلاء أنهم يدّعون بحرية الرأي والرأي الآخر والحياد، وهم أبعد ما يكونون عنه، فواقعهم يشهد بذلك، فهم عندما يتحدثون في وسائلهم الإعلامية يصادرون كل الآراء التي لا تتلائم مع توجهاتهم. يهاجمون الثوابت بلا أدلة، ويصادرون الحقائق بما فيها من أدلة. إنه بلا شك هوى النفس الأمارة بالسوء.
اتَّسم الخطابُ الليبرالي بالانْحِياز التام وغير المبرر إلى كلِّ ما هو دخيلٌ على المجتمع، فأضْحَتِ الاحتجاجات التي تنبثُّ في نتاجاتهم الفكريَّة: أنَّ المجتمع غير لائق في صُورته الاجتماعيَّة والثقافية الحاضرة، ولابدَّ منَ التغيير، ولا يكون ذلك إلاَّ بِطَمْسِ التُّراث الاجتماعي، وتهميش ضوابط الشَّرْع التي جاءتِ الأعرافُ مُتَوافِقة معها.
إنَّ هذه الرُّؤْية التي تشكَّلَتْ لدى دُعاة التَّيَّار اللِّيبرالي، هي نفس رؤية المُجتَمَعات الغربيَّة لنا، لذا فدعاة التغريب الليبراليون استعاروا مرآة الآخر لينظروا فيها، فأصبحوا غير قادرين على رؤية الهُويَّة الصحيحة للمجتمع، بعد أن حُبس وعْيهم في هذا المنظار، فهم يرون ما يراه الآخر عن مُجتمعهم الذي خرجوا منه.
جُملة المفاهيم والأفكار والثقافات التي توجه حركة المجتمع لا تَتَناسَب مع ما جاء به التَّيَّار الليبرالي، حيث إنَّ الوَعْي الاجتماعيَ الذي يعيشُه المجتمعُ في اللحظة الراهنة لا يخرج عنِ الأُطُر والمفاهيم الإسلامية، وهذا أكبر عائقٍ يواجه الأفراخ الليبراليين، لذا كان تزييفُ الوَعْي هو المخططَ الجديد لذلك التيار، وهو تزييف المفاهيم لدى المجتمع التي يَبنِي عليها رؤيته للمستقبل من خلال بَثِّ مفاهيم ضرورة تمييع النُّصُوص الدِّينيَّة، حيث إنَّها لا تتوافَق مع الواقع المعاصِر، والتخلِّي عن الأعراف والقِيَم التي تَربَّى عليها المجتمعُ، وكلُّ ذلك تحت شعار النهضة والتقدُّم، وضرورة التغيير، ومُواكَبة العالَم الخارجي، والبُعد عن الانغلاق.
هم يستطيعون أن يخدعوا بعض أفراد المجتمع في بعض الأوقات، لكن لا يستطيعون أن يخدعوا المجتمع كله في كلِّ الأوقات، لأنَّ التنكُّر الاجتماعي لهم ظاهر، وهم الآن يعيشون في غُربة، وإن كانوا يعيشون وسط هذا المجتمع، حيث إنَّ مطالباتهم غير المقبولة باتت مكشوفة أمام المجتمع، سيما أنهم وُضعوا في قفص الاتهام، وهذا هو الذي سيجهض حركتهم التي تَتَمَخَّض مِن رحم الأحلام بأنهم سيكونون شيئًا.
إن المعركة قائمة معهم إلى قيام الساعة، والبشرية اليوم تتخبط في عمايات لن ينجيها منها إلا الهداية إلى الإسلام، وقد جربت نظريات وتصورات للكون والحياة ومناهج مختلفة فلم يزدها ذلك إلا حيرة وضلالاً، وبدأ كثير من الناس في الأرض يرمون بأبصارهم نحو الإسلام، بعضها ينظر إليه باعتبار أنه العقيدة المؤهلة لتسود العالم أجمع في المرحلة المتبقية من عمر الدنيا، والبعض الآخر يراه المنافس الأقوى لدينه ومبادئه فتحمله عقيدته ومصالحه الخاصة على الدس والتشويه والطعن في الإسلام وأهله وافتعال المعارك وتأجيج رحى الحرب على كافة المستويات كما هي عادة أئمة الكفر، وتبقى شرائح كبيرة من الناس في العالم تائهة ضالة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. أفيتركون كلأً مباحاً لدعاة التقريب بين الأديان؟ أم يتركون هنيئاً مريئاً للدعاة الجدد من العصرانيين والتنويريين؟.
لقد استجابت أمة الإسلام لنداء القرآن في القرون المفضلة فاهتزَّ العالم والوجود بحركتها، حمل أسلافنا في تلك القرون لواء الإسلام بصدق وإخلاص فعمروا الكون وأخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فأضاء نور أمة الإسلام في تاريخ الوجود، ثم تَرك أقوامٌ منا اللواء في مواطن دون مواطن ومشاهد دون مشاهد وأزمان دون أزمان ورجال دون رجال، كان منّا الظالم لنفسه، وكان منّا المقتصد، وكان منّا السابق بالخيرات، ولا زلنا نعتقد ونؤمن أننا خير أمة أخرجت للناس، وعندنا من الخيرية والاصطفاء على أهل الأرض ما يجعلنا نُخرج العالم من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن رق الهوى إلى رحاب عبودية الله، ونرفع راية أنوار النبوة وأعلامها لا مشعل النار وحرياته المزعومة!.
ولن يصل المسلمون إلى النصر والتمكين إلا بفيئتهم للكتاب والسنة بفهم السلف الصالح علماً وعملاً، وكفى بهم تربصاً وتلفتاً تارةً في الشرق وأخرى في الغرب، فهم نقاوة العالم، فإنْ فاءوا فإنَّ الله غفور رحيم، وإنْ عزموا الطلاق فإنَّ الله سميع عليم، وسيظل باب التوبة مفتوحاً لا يؤصد إلى أن تطلع الشمس من مغربها.
إنَّ الواجب في مثل هذه الأزمان على من أعطاه الله هدىً وتوفيقاً وعلماً وبصيرةً أن يوصل ما خوله الله من نعمته إلى من به إليه حاجة من البشر، وحَقٌّ على علماء أمة الإسلام ودعاتها ومثقفيها المخلصين أن يتهيأوا لقيادة العالم كلٌ وما يستطيع، ولا تهولنهم الأراجيف فـ"المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قلوبهم واحدة، موالية لله ولرسوله ولعباده المؤمنين، معادية لأعداء الله ورسوله وأعداء عباده المؤمنين، وقلوبهم الصادقة وأدعيتهم الصالحة هي العسكر الذي لا يغلب، والجند الذي لا يخذل، فإنهم هم الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة"[3]. فالسعيد من كان له في ذلك حظ ونصيب، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.
والحمد لله أولاً ...



[1] الشرح الممتع (8 / 91-92).
[2]  انظر: مجلة الدعوة: عدد 1583، عام 1416، الخميس 1 ذي الحجة، (ص 14 - 15).
[3]  مجموع الفتاوى (28 / 644) .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق